كشف موقع “واللا” الإسرائيلي، و”أكسيوس” الأمريكي، أوائل يونيو/حزيران الجاري، عن جهود تبذلها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للوساطة وللتطبيع بين السعودية وإسرائيل، بحضور هامشي وغير مستغرب للنظام المصري، رغم أن جزيرتي تيران وصنافير تمثلان الجوهر الأساسي لتلك الجهود والوساطة، أو للدقة مسيرة التطبيع السعودي الإسرائيلي التي تقودها الإدارة الأمريكية.
حسب ما نُشر في الموقعين، لنفس المحرر حَسَن الاطِّلاع ووثيق الصلة، باراك رافيد، وكما ورد في تسريبات وتقارير غصت بها وسائل الإعلام العبرية خلال الأيام الماضية، فالقصة باختصار أن نقل جزيرتي تيران وصنافير من السيادة المصرية إلى السعودية لم يتم حتى الآن، بسبب عقدة أساسية تتمثل في رغبة الرياض في إنهاء عمل القوات الدولية متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية، التي تنتشر في الجزر، لضمان حرية الملاحة في مضائق تيران والبحر الأحمر، بناء على اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل.
هذا البند (أي تواجد القوات الدولية وضرورة موافقة تل أبيب على أي تغيير في وضع الجزر، بما في ذلك نقل السيادة والملكية) جعل الدولة العبرية طرفاً في عملية نقلها من مصر إلى السعودية، وكما قال وزير الخارجية سامح شكري، فقد وضعت حكومته تل أبيب في الصورة، واستأنست برأيها في الصفقة. وأكدت هذه الأخيرة أنها لا تمانع في نقل السيادة، شرط بقاء القوات الدولية متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية فيها، لضمان حرية الملاحة في هذه المنطقة الحساسة، التي تمثل مدخلاً إلى البحر الأحمر وميناء أم الرشراش “إيلات” في فلسطين المحتلة.
بناء عليه، تعثرت عملية نقل الجزر إلى السعودية، التي تريد إنهاء تواجد القوات الدولية بحجة انتهاك سيادتها، وهذا مثل المدخل المناسب ضمن أسباب أخرى طبعاً للإدارة الأمريكية للتدخل والوساطة بين الرياض وتل أبيب، بحضور هامشي وخجول للنظام المصري الضعيف والمأزوم وغير المؤثر في توازن القوى الإقليمية نتيجة أزماته الداخلية المتفاقمة، وهروبه المنهجي منها، بحثاً عن الشرعية والدعم في المحيط الإقليمي والدولي.
لكن قبل الخوض في تفاصيل الوساطة الأمريكية لا بد من الإشارة أولاً إلى الموقف البارد السابق لإدارة جو بايدن من اتفاقيات التطبيع بشكل عام، واعتبارها من إرث إدارة دونالد ترامب، كما لفهم الإدارة الواقعي أن المشكلة الإقليمية المركزية هي القضية الفلسطينية، وأن جوهر اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية يتمثل في الهرب إلى الأمام، والسعي لتجاوز غير واقعي وغير مُجدٍ لها، حسب إقرار وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي يائير لابيد فيما يشبه الاعتراف التاريخي.
إضافة إلى ذلك، فقد اتخذت إدارة بايدن موقفاً بارداً من القيادة السعودية وولي العهد محمد بن سلمان، بصفته الحاكم الفعلي للبلاد، لعدة أسباب، منها تجاهل إرث ترامب بشكل عام، وعلاقته الوثيقة بالسعودية، إضافة طبعاً إلى تورط بن سلمان في جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، والتي قال تقرير رسمي للمخابرات الأمريكية إنها تمت بأوامر وتغطية مباشرة منه.
السبب الثالث كان الانكفاء الأمريكي شرقاً باتجاه الصين، والسعي في السياق للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ضمن تهدئة -لا حلول- عامة في المنطقة.
غير أن موقف الإدارة تغيّر جذرياً بعد الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان، وتعثُّر مفاوضات فيينا من أجل العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، التي أثارت هواجس الحلفاء العرب، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، ورفض هؤلاء الحلفاء، خاصة الخليجيين، بما فيهم السعودية، الاصطفاف في المحور الغربي الأمريكي؛ احتجاجاً على سياسات إدارة بايدن، وبالتالي رفض ضخّ مزيد من النفط الخليجي في السوق لتعويض مقاطعة النفط الروسي، وضمان خفض الأسعار أمريكياً وعالمياً على أعتاب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الحاسمة للحزب الديمقراطي الحاكم، وحتى لمستقبل الرئيس جو بايدن شخصياً، وإمكانية تنافسه في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد عامين.
التقارب مع الدولة العبرية
بناء عليه، زادت الإدارة تدخلها وانخراطها في شؤون وملفات المنطقة، خاصة بعد الحاجة إلى النفط العربي، وتجاوزت فيتو التعاطي مع القيادة السعودية، وأرادت تقديم شيء ما لها مقابل ضخ النفط في السوق، ووجدت ضالتها في إسرائيل عبر ضرب عدة عصافير بحجر واحد. فالتقارب مع الدولة العبرية على أعتاب انتخابات الكونغرس، يخدم الإدارة داخلياً عبر القول إنها لن تتخلى عن حليفتها، وتعمل على طمأنتها تجاه تداعيات الانكفاء عن المنطقة، بل وتسعى إلى تسليمها القيادة الإقليمية، عبر دعم مسيرة التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية، التي رفضت وزارة خارجية إدارة بايدن في بداية عهدها استخدام حتى المصطلح الإبراهيمي في مكاتباتها الرسمية.
أما تفاصيل الصفقة التي تعمل عليها واشنطن فتتضمن تسريع نقل الجزر إلى السعودية من دون القوات الدولية، إثر إزالة الممانعة الإسرائيلية، ما يُعتبر إنجازاً لمحمد بن سلمان، عبر استعادتها من دون أي تواجد أجنبي.
بالمقابل، توافق الرياض على بوادر تطبيعية تجاه تل أبيب، مثل فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية إلى آسيا والشرق الأقصى، ودراسة فكرة تسيير رحلات جوية مباشرة لنقل حجاج عرب 48 من فلسطين، الأراضي المحتلة، إلى الأراضي الحجازية المقدسة، مع منح تأشيرات لرجال أعمال إسرائيليين حتى دون حيازتهم جوازات سفر أجنبية.
التطبيع يشمل كذلك تعاوناً أمنياً بين الرياض وتل أبيب، ولو بشكل غير معلن رسمياً، ضمن ما يسميها نفتالى بينيت الهندسة الإقليمية، بينما يبدو التطبيع الرسمي والمعلن بطيئاً وطويلاً، كما قال وزير الخارجية يائير لابيد، وسيحدث بعد ثلاثة وزراء خارجية، أي في غضون خمس سنوات على الأقل.
نظام السيسي المهمش
إلى ذلك يبدو لافتاً جداً الحضور المتواضع للنظام المصري في القصة كلها، والحوار يتم بين واشنطن وتل أيبب والرياض عبر مبعوثين سياسيين واقتصاديين- مسؤول الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي روبرت ماكغورك، ومسؤول ملف الطاقة عاموس هوشتستن، ونظام السيسي المهمش سيتلقى فُتاتاً يتمثل بدعم أمني إسرائيلي في سيناء، ودعم أمريكي عبر بعض صفقات التسليح، والتجاوز عن سجله السيئ في ملف حقوق الإنسان، وتخفيف الضغوط السياسية والإعلامية عليه، ودعم مالي سعودي وإماراتي محدود وغير قادر على إخراجه من ورطته، كونه يحتاج إلى 25 مليار دولار على الأقل لمواجهة التداعيات الاقتصادية والأزمة الأوكرانية في قطاعي الطاقة والغذاء، ناهيك عن فشله المركب والعميق ومتعدد المستويات في الملفات الاقتصادية والاجتماعية، تحديداً الصحة والتعليم والمواصلات والخدمات والبنى التحتية الأخرى.
في النهاية، وببساطة واختصار، نحن أمام هروب موصوف إلى الأمام، وكما قلنا وسنقول دائماً فالشرعية تأتي من الداخل، وحل التحديات والأزمات القائمة في العالم العربي يحتاج إلى تكامل وعمل مشترك، لا مكان لإسرائيل والتطبيع فيه، وقبل ذلك وبعده فالقضية الفلسطينية هي جوهر الصراع، حسب قناعات إدارة بايدن نفسها وتصريحاتها السابقة، والتذاكي والالتفات عنها لم ولن يُجدي نفعاً أو يكفل إشاعة أجواء السلام والاستقرار في المنطقة.