نشرت مجلة «ريسبونسبل ستيت كرافت» التابعة لمعهد كوينسي لفن الحكم الرشيد مقالًا لكريستيان كوتس أولريخسن، المؤلف والباحث في شؤون الشرق الأوسط بمعهد بيكر، يحلل فيه أسباب التقارب السعودي التركي مؤخرًا؛ والذي يبدو أنه يأتي في إطار مساعي القيادة السعودية للمصالحة الإقليمية والتطلع إلى الاستفادة من قطاع الإنتاج الدفاعي التركي، لا سيما في مجال الطائرات المسيَّرة.
ويستهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى التقارير التي تفيد باحتمالية تخطيط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لزيارة تركيا في إطار جولة دولية في يونيو (حزيران)، وهي واحدة من أولى جولاته خارج منطقة الخليج منذ مقتل جمال خاشقجي عام 2018، إلى الشعور بالتقارب في العلاقات الثنائية بين الرياض وأنقرة.
ويبدو أن عقدًا من سياسات المواجهة المتزايدة التي وضعت القادة السعوديين والأتراك في مواجهة بعضهم بعضًا عبر مجموعة من القضايا، قد أفسح المجال لفترة من البراجماتية الأكبر في العلاقات الإقليمية. ويتوافق هذا جزئيًّا مع تخفيف التوتر على مستوى المنطقة على نطاق أوسع؛ والذي كان جاريًا منذ عام 2020، كما يمثل جزءًا من هذا الاتجاه؛ وفيما يخص المسؤولين في الرياض – وكذلك في أنقرة وأماكن أخرى في المنطقة – تُمنَح القضايا المحلية أهمية أكبر من قضايا السياسة الخارجية في عصر كوفيد-19، ومع بدء التركيز على رؤية 2030 من جانب القيادة الشابة التي تنتمي إلى جيل الألفية في المملكة.
إزالة الآثار المزعجة لعملية الاغتيال
يوضح الكاتب أنه بعد أن تخلَّف القادة السعوديين والأتراك في البداية عن اللحاق بركب التحسُّن في العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، أشارت التطورات في أبريل (نيسان) 2022 إلى أنهم قرروا، على الأقل في الوقت الحالي، تجاوز القضايا الخلافية التي اتسمت بها الحقبة السابقة في العلاقات الثنائية.
وعلى الجانب السعودي، كان مفتاح حل مشكلات الماضي هو القرار الصادر في 7 أبريل من قِبل هيئة من القضاة في إسطنبول بالموافقة على طلب من السلطات السعودية بنقل المحاكمة (غيابيًّا) لـ26 سعوديًّا مشتبهًا فيهم في مقتل خاشقجي إلى المملكة، وأشارت تقارير إعلامية في ذلك الوقت إلى أن المسؤولين في الرياض جعلوا إغلاق ملف خاشقجي شرطًا لأي تحسُّن في العلاقات مع تركيا، وأشار مقال منفصل عن العلاقات الأمريكية السعودية في صحيفة «وول ستريت جورنال»، إلى رواية مصادر قالت إن محمد بن سلمان فقد أعصابه بعد أن أثار مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قضية خاشقجي خلال اجتماع في سبتمبر (أيلول) 2021، ما يعني أن قضية الصحفي السعودي ظلت قضية صعبة للغاية على ولي العهد.
لذلك كانت التوترات بين المملكة العربية السعودية وتركيا مُشخصنة أكثر من التوترات بين الإمارات (وخاصةً أبوظبي) وتركيا، والتي كانت أكثر أيديولوجية في طبيعتها، وكان لها علاقة أكبر بوجهات النظر المختلفة لقيادة البلدين حول الإسلام السياسي والإخوان المسلمين.
واتَّهم بعض المعلِّقين في أنقرة الإمارات بالتورط في محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في يوليو (تموز) 2016، ثم اتَّخذ الخلاف الأيديولوجي بين أنقرة وأبوظبي بُعدًا عسكريًّا في 2019-2020 عندما دعمن كلتا الدولتين جماعتين متنافستين تسعى كل منهما للسيطرة على مقاليد الأمور في ليبيا، وكان يُنظر إلى تدخل تركيا لدعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا في طرابلس على أنه عامل حاسم في إحباط محاولة الإمارات ومصر ومحاولة أمير الحرب خليفة حفتر الاستيلاء على العاصمة الليبية.
السعودية أكثر براجماتية من الإمارات
وأفاد الكاتب أنه على الرغم من أن السلطات السعودية صنَّفت جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في مارس (آذار) 2014، فإن السعودية أقدمت على تلك الخطوة لاهتمامها بالضغط على قطر في ذلك العام في تكرار الخلاف الدبلوماسي لدول الخليج، ثم بعدها سحبت السعودية (إلى جانب الإمارات والبحرين) سفراءها من الدوحة.
وحَذَت الإمارات حذوها بعد ثمانية أشهر، وضغطت أبوظبي بنشاط على الحكومات الأجنبية، بما في ذلك حكومة ديفيد كاميرون في المملكة المتحدة، لتبني مواقف أكثر تشددًا ضد جماعة الإخوان المسلمين؛ وتشير الدلائل من اليمن – حيث كانت السلطات السعودية مستعدة للعمل مع الجماعات الإسلامية والجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين على الأرض – إلى أنه في هذه القضية، كان للرياض نهج أكثر مرونة، بل أكثر براجماتية، من موقف الإمارات المتشدد في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
وبينما انضمت السعودية إلى الإمارات في حصار قطر في يونيو (حزيران) 2017، وفي المطالبة بإنهاء التعاون العسكري بين تركيا وقطر بوصف ذلك واحدًا من ثلاثة عشر شرطًا لحل النزاع، فمن المسلَّم به عمومًا أن الانفصال عن الدوحة نشأ في أبوظبي أكثر منه في الرياض، وكانت الظروف المروِّعة لمقتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، وتدفق الادِّعاءات من التحقيق التركي اللاحق، هي التي أوجدت التوتر العميق في العلاقة بين الرياض وأنقرة، وكان ذلك جزئيًّا بسبب عدم استعداد الرئيس أردوغان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكلاهما عنيد، للعمل على رأب الصدع، ولم تنجح الزيارة التي التي قام بها الأمير خالد الفيصل آل سعود، أمير مكة المكرمة، إلى تركيا في 2018، بناءً على طلب الملك سلمان، في رأب الصدع في العلاقات الذي حدث نتيجة مقتل خاشقجي.
ولفتت التقارير المستمرة عن مقاطعة سعودية غير رسمية للمنتجات التركية – وكانت حقيقية؛ إذ أدَّت إلى انخفاض قيمة الصادرات التركية ومقدارها إلى المملكة بين عامي 2019 و2021 – الانتباه إلى انهيار العلاقات في مواجهة ما بعد خاشقجي، وامتد العداء إلى وسائل الإعلام والمعلِّقين السعوديين الذين حثوا مواطنيهم على عدم قضاء عطلة في تركيا في جو من التحزب الشديد والتأييد الشعبي الكبير لمحمد بن سلمان، وحدث هذا على خلفية التراكم غير المسبوق للسلطة السياسية وسلطة صنع القرار في يد ولي العهد، ونتيجةً لذلك، كان لارتباط محمد بن سلمان بتداعيات مقتل خاشقجي، الذي أشار إليه الرئيس أردوغان عندما ألقى باللوم على «أعلى المستويات» في الحكومة السعودية لكنه ذكر بوضوح أن هذا لا يورِّط الملك سلمان، تأثير مفرط على إدارة سياسة الدولة طالما كانت المشكلة «قائمة» ولا حل لها.
ويتساءل الكاتب التغيير الذي قد يؤدي إلى تحسين العلاقات الثنائية بين السعودية وتركيا إلى الحد الذي جعل محمد بن سلمان وأردوغان يتعانقان علنًا خلال زيارة الأخير في 28 أبريل إلى جدة، وهي الأولى له إلى المملكة منذ أكثر من عقد من الزمان؟ ويلقي مقال منفصل للصحافي مصطفى قربوز الضوء على الجانب التركي من المعادلة، لكن ما تبقى من هذا المقال يستكشف ما دفع القيادة السعودية لإضافة تركيا إلى قائمة العلاقات الإقليمية التي تحسَّنت في العامين الماضيين، ومن المؤكد أن التحول في الموقف التركي من خاشقجي، إلى غضب دعاة حقوق الإنسان وأصدقاء وعائلة كاتب العمود المقتول، كان محوريًّا، لكن العوامل السياقية الأخرى مهمة أيضًا.
التغييرات المؤثرة في السياسات السعودية
ويوضح الكاتب أن هناك عديدًا من القضايا التي تكمن وراء الروح الأوسع للمصالحة التي ميزت الديناميكيات الإقليمية منذ عام 2020؛ إحداها أن كوفيد-19 ضرب كل بلد في المنطقة (والعالم) وركز اهتمام صانعي السياسات تركيزًا أكبر على الساحة المحلية، سواءً في وضع استجابات صحية للجائحة، وفي الإبحار خلال عملية الانتقال غير المؤكد إلى مشهد ما بعد الجائحة؛ والسبب الآخر هو أن هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 كانت بمثابة إشارة إلى نهاية فترة سياسات القوة غير التقليدية والفجة التي هيمنت على السنوات الأربع الماضية، على الأقل حتى عام 2024، والثالث هو ظهور علامات، في الرياض كما في أبوظبي، على الضعف الذي أصاب الصلابة التي اتسمت بها السياسات الإقليمية السعودية والإماراتية المتَّبعة بين عامي 2015 و2018.
وفيما يخص أبوظبي، كانت السبب هو محدودية قدرتها على تحويل القوة العسكرية إلى مكاسب سياسية في ليبيا، وبقدر أقل في اليمن، ولكن فيما يخص القيادة السعودية، أكدت الهجمات الصاروخية والطائرات المسيَّرة في سبتمبر (أيلول) 2019 على المنشآت النفطية في مدينتي بقيق والخريص، فضلًا عن عدم وجود رد أمريكي، على ضرورة تغيير المسار وتهدئة التوترات في المنطقة، وفي غضون أسابيع من هجوم بقيق، تواصل المسؤولون السعوديون مع نظرائهم الإيرانيين عبر وسطاء في العراق، وتواصل المسؤولون الإماراتيون على نحو مباشر مع المسؤولين الإيرانيين في يوليو 2020 بعد سلسلة من الحوادث التي شملت سفن الشحن قبالة الساحل الإماراتي.
وعلى الرغم من التنسيق الوثيق في السياسات الإقليمية السعودية الإماراتية، كان من المفيد أن يتبع كل منهما مساره المنفصل للحوار (وخفض التصعيد) مع إيران، تمامًا كما فعلا أيضًا مع تركيا؛ وهذا مؤشر على أن القادة الأفراد يقدمون الأولوية لسعيهم لتحقيق المصالح الوطنية على أي تصور للتكتلات الإقليمية غير الرسمية التي رأى كثيرون أنها تضع السعودية والإمارات في مواجهة تركيا وقطر في أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
نهجان متميزان في السياسة الإقليمية والمحلية
ويمضي الكاتب إلى أن محمد بن سلمان اتبع نهجين متميزين ولكنهما مرتبطان إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بالسياسة الإقليمية والمحلية منذ عام 2020، وقد يتضح كلاهما مع تطور العلاقات مع تركيا؛ وفيما يخص الجمهور الخارجي، قدَّم ولي العهد نفسه بصفته شخصية ذات أهمية إقليمية وسعى إلى صياغة صورة لرجل دولة بعيد كل البعد عن سمعته واشتهاره بالتصرف المتهور الذي اكتسبه بعد عام 2015.
وكان هذا واضحًا في طريقة ولي العهد الذي شغل موقع الصدارة في قمة «المصالحة» في العلا بالسعودية في يناير (كانون الثاني) 2021؛ والتي أنهت الخلاف الذي دام ثلاث سنوات ونصف مع قطر، وكذلك في جولة محمد بن سلمان لعواصم خليجية أخرى في ديسمبر (كانون الأول) 2021، قبل قمة مجلس التعاون الخليجي التالية، ومنذ ذلك الحين، عززت الأحداث من قوة قبضة اليد السعودية، مع ارتفاع أسعار النفط والعائدات الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، مما زاد من الشعور السائد في الرياض بأن المملكة لديها نفوذ على الشركاء الإقليميين والدوليين، مثل إدارة بايدن.
وفي الوقت نفسه، كان هناك تأكيد على التركيز على السياسة الداخلية السعودية مع مرور أسوأ متاعب الجائحة، ومع سعي محمد بن سلمان الدائم لخلافة والده، وبدا الملك سلمان ضعيفًا للغاية حيث خرج من مستشفى الملك فيصل الخاص في جدة في 15 مايو (آيار) بعد إقامة لمدة ثمانية أيام لإجراء منظار على القولون، وكان من الملاحظ أن ولي العهد انتظر حتى خروجه من المستشفى قبل أن يسافر إلى أبوظبي ليعزي محمد بن زايد في وفاة أخيه رئيس الدولة خليفة بن زايد آل نهيان. وفي بيئة ما بعد الجائحة ومع اقتراب عام 2030، سيواجه محمد بن سلمان على نحو منفصل إلحاحًا أكبر في تحقيق تقدم اقتصادي ملموس يلبي التوقعات بأن رؤية 2030 ستغير السعودية وحياة المواطنين السعوديين وتطلعاتهم.
ويلفت الكاتب إلى أنه إذا كان أحد جوانب سياسة عصر ما بعد الجائحة هو المنافسة المتزايدة مع الإمارات في الأسواق الإقليمية، فإن الجانب الآخر هو بروز تنشيط تلك المجالات من الاقتصاد السعودي، مثل السفر والسياحة والضيافة والترفيه، التي تضررت بشدة جراء فيروس كوفيد-19، والتي منحها محمد بن سلمان ومستشاروه الاقتصاديون والسياسيون الأولوية للتطوير، وفي هذا السياق، ليس من المنطقي أن يُغلق أحد أكبر الأسواق في المنطقة لأسبابٍ سياسيةٍ، إذ يمكن أن يكون الوصول إلى تركيا، في الاتجاه الآخر، دفعة كبيرة للأعمال التجارية للتكتلات السعودية؛ ومع ذلك، يبدو أن التعاون في قطاع الدفاع والصناعة الدفاعية يمثل أولوية مبكرة للمسؤولين السعوديين مع إحياء العلاقات مع تركيا.
آفاق التعاون بين تركيا والسعودية
أبرم كيانان سعوديان بالفعل اتفاقية مع شركة Vestel Savunma للمشاركة في إنتاج مركبة جوية قتالية مسيرة اسمها (Karayel-SU) في المملكة، مع وجود تقارير تشير إلى أن الطائرات المسيَّرة قد نشرت في العمليات التي يقوم بها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
وقد تكون الخطوة القادمة في أي علاقة يقودها الدفاع هي الاستحواذ السعودي على طائرات بيرقدار المسيَّرة – التي أثبتت وجودها في ساحات معارك متعددة، بما في ذلك ليبيا، في السنوات الأخيرة – بالإضافة إلى اتفاقيات التعاون التي تشمل الشركة السعودية للصناعات العسكرية وقطاع الدفاع المتقدم في تركيا، وأي مشاركة من قِبل الشركات التركية في خطة الشركة السعودية للصناعات العسكرية لتوطين 50% من الإنفاق الدفاعي السعودي في سلاسل التوريد المحلية بحلول عام 2030 يمكن أن توفر فائدة كبيرة لكلا البلدين، وتكون نقطة انطلاق لشراكات إضافية وأوسع.
ويختتم الكاتب مقاله بالإشارة إلى أنه من المرجح أن يركز تحسين العلاقات بين السعودية وتركيا على تأمين المصالح الثنائية لكل طرف وليس هناك احتمال لإنشاء كتلة جديدة أو إعادة تنظيم إقليمية، على الأقل خلال السنوات العديدة المقبلة مع استمرار المناخ الأوسع للمصالحة على مستوى المنطقة، ولا يبدو أن العلاقات السعودية الأكثر دفئًا مع قطر منذ عام 2021 مرتبطةً بعلامات التنافس مع الإمارات في الفترة نفسها، وليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن التقارب بين الرياض وأنقرة من شأنه أن يؤثر في العلاقات السعودية أو التركية مع الدول الإقليمية الأخرى؛ وبدلًا من ذلك، يمكن رؤية المزيد من التأثيرات المباشرة في تغيير التغطية الإعلامية، وإنهاء سمعة تركيا في حقبة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بوصفها ملاذًا للمعارضين السياسيين من دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الإمارات ومصر والسعودية.
عن ساسة بوست