إدريس غي.. الكفاح الإنساني للإسلام الأفريقي

مهنا الحبيل

من الخطأ بمكان أن يُنظر إلى قضية اللاعب السنغالي الدولي، إدريس غانا غي، والمحترف في نادي باريس سان جرمان، بأنها فقط حادثة مرتبطة بالموقف المناهض والمعادي له، بسبب رفضه الشخصي دعم الحياة المثلية ضد الأسرة الفطرية للإنسانية، فهذه الحادثة كانت تُخفي وراءها كتلة تطرّف ضخمة في موقف الكولونيالية الثقافية البديل عن الكولونيالية الاستعمارية، فهي هنا حالة اصطدام بجدار التطرّف الفرنسي الذي تطوّر كثيراً موقفه المناهض للإنسان الآخر، خارج القومية الغربية بإرثيها، المسيحي والليبرالي، وتُرجم ذلك في الحياة السياسية والاجتماعية في فرنسا، من رئاسة الجمهورية إلى الصحف الشعبية. .. وأفكار هذا المقال تتضمنها النقاط التالية:
أولا، رَفض إدريس غي المشاركة في مباراة مؤدلجة لدعم المثليين، ولم يُعلن موقفه ببيان، ولم يتخذ موقفاً هجومياً مباشراً من هذه المشاركة، لكن الآلة الإعلامية والثقافية الضخمة في المركز الغربي شنت عليه حملةً شرسة، وصلت إلى المطالبة بالتحقيق معه، وأُخضع اللاعب لحملة ترهيب واسعة، خشيةً من أن يُفسّر موقفه تبنيا صريحا لحقه الشخصي المقطوع به في الإسلام تجاه المثلية.
ثانيا، تطوّرت القضية في الاتجاه المعاكس لأصحاب الحملة، وفي مركزهم العالمي، فإعلان الرئيس السنغالي دعم موقف إدريس غي، في حق فردي أساسي من حقوق الإنسان، أُتبع بحملة تضامن عالمية مع النجم السنغالي الذي كان يُظهر شعائره وروحه الإسلامية، كرابطة أخلاقية وهوية ثقافية أصيلة، في وجدان السنغال وفي أفريقيا السمر

ثالثا، يبرز لنا هنا بالضرورة الوجه الكولونيالي لاستخدام المثلية القهرية، وتؤكد هذه الحادثة صحة استخدام هذا المصطلح (القهر) هنا، فما يجري على مستوى التشريعات الغربية، والضخّ الإعلامي والتوظيف الدولي للظاهرة المثلية، ليسا مرتبطين بطبائع أو سلوك يطرآن على الفتيان أو الفتيات، وإنما هو برنامجٌ ضخم، تديره القوة الرأسمالية نفسها، وتُروّجه في كل وسائطها، وتفرضه على القيم الإنسانية، وبالذات في عالم الجنوب الذي لم تتمكن منه الظاهرة.
رابعا، وعلى الرغم من أن هناك حالة ضيق في الغرب ذاته، وتذمّر من العسف القانوني العنيف، أو إخضاع الأطفال للتشكيك في هوياتهم الجنسانية مبكراً، وغير ذلك من صناعة الأجواء المحمومة حول المجتمعات، وفي كل مساحة ثقافية وسياسية، إلا أن مجرد ممارسة الحرية الفكرية والتربوية المخالفة للمثلية أصبح محل ترصّد ومتابعة من المشروع الكولونيالي، والذي يهمنا هنا وضعه في سياقه العلني، خلافاً لذلك التضليل الضخم، الذي يقدّم هذه الثقافة ضمن أقليات التعدّد، فهي، بحسب الواقع، باتت أداة لصالح الإمبريالية الثقافية الجديدة.
خامسا، وعليه، كانت خطوة إدريس غي مستفزّة للفرع الفرنسي لهذه القوة التي أرادت تأديبه، وقمع أي مساحة حريةٍ قيميةٍ، يتمسّك بها الإنسان الحر الآخر، الذي لم يخضع لماكينة الغرب السلوكية ونمط سوقها، فلا يجرؤ أحدٌ على رفض هذا القهر المثلي، وخصوصا في مساحات الضوء المفتوحة على كل الناس، وهي رياضة كرة القدم التي تصل إلى مواقع واسعة، وتربط هذا العالم، وبالتالي تتداخل مع السوق الوظيفي الضخم للرأسمالية العالمية، فقوبل إدريس بذلك الهجوم.

الحديث هنا عن مفهوم الإسلام الأفريقي، الذي ردّ من خلاله إدريس غي على حملة الشيطنة، ولا يُقصد به أن هناك إسلامات متعدّدة، ولكنّ الحقيقة أن طبيعة هذه الرسالة وقوتها الفكرية المتجدّدة في عالم اليوم، رغم كل الفشل الأخلاقي في الشرق، والنماذج المسيئة لصورة الرسالة الإسلامية، إلا أن هذا الجوهر الإيماني الفلسفي، يتمكّن من وجدان لاعب كرة القدم كما هو عقل المثقفين وتحريرات العلماء، ومساحة الجدل الفلسفي الذي تشارك به أفريقيا. ومع الأسف، جسور التعاضد والتكامل ضعفت كثيراً بين العرب وشركاء القيم والرسالة، بين ضفتي آسيا وأفريقيا.
وحين نقول شركاء القيم نعني بهم غير المسلمين من الأفارقة، والذين لا يزالون يتمسّكون بروح الإنسان المستقلة التي ترفض احتلال الذات الفردية في عالم الجنوب، وتسليمها وتسبيحها لليبرالية الإمبريالية في الغرب، وكل مذاهبها السلوكية والاستهلاكية، بل إننا نعجب اليوم من أن حالة الانجراف العربي، المناهضة للإسلام بوصفه رسالة، وليس الصراع مع الإسلاميين الحزبيين، والكارهة لروحه الأخلاقية الفكرية في وجدان الشعوب، تتمكّن في بلدان عربية أفريقية، في حين يَرفض الكفاح الإنساني للأفارقة المسلمين فرضها على حياتهم اليوم.

يقوم هذا الصوت الثوري الحقوقي على أضلاع أساسية، أولها طبيعة روح الإسلام المذهلة التي يتّحد عليها العقل الإنساني والقيم المشتركة السلوكية والفكرية للخليقة، وهي تحمل طاقة ممانعةٍ صلبةٍ لصدّ شركات الحداثة الضخمة، ومنعها من تأميم الحرية الإنسانية، خصوصا أن هذه الشركات الرأسمالية الكبرى هي القوة العميقة التي تسطو على الناس وتقهرهم. ولكن انتصار الفكرة الإسلامية لا يزال يصنع جسوره، من دون جدران فصلٍ عنصري، فوصول القيمة الفكرية والتفسير الروحي والعمراني لا يزال متصلاً وحاضراً، حتى في حياة الغربيين، وبالذات من ذوي الفكر والتأمل، بل أضحى الإسلام القوة المتبقية الوحيدة لحماية الفطرة الإنسانية، والقدرة الجدلية الفلسفية لتفكيك ميراث سطوة القوة التي تتجدّد في عالمنا اليوم، ولم توقفها فسلفة فوكو إطلاقاً، بل أُعيد استيعاب جدله في داخل هذه “الميكنة”، وبات مذهبه الجنساني وسيلةً للقهر في القوة العالمية الإمبريالية.


ويا لها من مفارقة، أن نظرية القوة التي لا تزال أجيال من فلاسفتها وطلبتها تُدرسها وتعيد تقليدها وتهمش على هامشها، هي اليوم وسيطة عنف خطير يفرض على الإنسانية، ويُتوارث التدثر بها وتقديمها في ثوبٍ أكاديميٍّ قشيب، ورغم كل مؤلفات التقديس العربية وغيرها من عالم الجنوب لإعادة تدويرها البائس، إلا أنها تعلن فشلها لذات القوة الإمبريالية، هنا الفارق بين هياكل التدوير لأزمة الفلسفة الغربية ومنائر التحرير المستقلة المقموعة لفلسفة المعرفة الإسلامية التي تبعث وجدان المضطهدين، لتصعد قوة الفكرة لمواجهة فكر القوة.

Exit mobile version